فاتها القطار

وصلت هي إلى محطة قد غادرها هو، كانت تظن أنها جاءت مبكرا، وأنها من لهفتها سبقت الزمان، ولكن ساعة أو ساعتين في انتظار المحبوب لا تعدها ضائعة، فهي قد قضت مئات الساعات في الانتظار قبل ذلك اليوم، وكلها كانت انتظارات صعبة ومملة، لكن اليوم ولأول مرة تحب الانتظار، تتمنى لو أنه يطول، لتودع كل شيء قبل أن يكون هو كل شيء وينهي اتصالها بالعالم، لأنها تعرف أنها لايمكن أن تجمع بين العالم وبينه، هو أكبر من العالم، والعالم أكبر منه.  

لكن الساعة والساعتين صارت خمسة وستة وعشرة، ولم يعد الانتظار ممتعا، رأت الناس في المحطة يستقبلون أحبابهم ويودعونهم، يخرجون من عالم الانتظار، ويدخلون إلى الدنيا، وهي ما زالت تنتظر. 

رأت أم تحتضن ابنها وتبكي وتستودعه الله وتلقي على القطار المغادر أدعيتها و وردها. 

رأت فتاة كانت تقف بجانبها لساعات تستقبل محبوبها بدموع صامته وحضن غذته لسنين. 

وهي ما زالت تنتظر. 

عامل المحطة الذي رأها تدخل معها في ساعات الصباح الأولى، سألها بشفقة من تنتظرينه سيأتي على أي قطار؟، وعندما أرته التذكرة الذي أرسلها لها، قال جاء هذا القطار في الأمس، وابتسم بشماته، لم تعرف حتى اليوم سببها. 

عادت إلى منزلها الذي كانت قد جهزته للاحتفال، رأت الطعام والحلوى، والبخور الذي لا تخرجه الا في المناسبات السعيدة، خرج من مخبأه ليلة خروج والدها من المستشفى، وليلة ولادة أختها للحفيد الأول، أعادته لمخبأه، وأطفئت الأنوار، شاهدت في التيك توك عربية تحاول أن تقنعها، أن الحب لم يعد موجود وأنها يجب أن تتعلم آداب الوحدة، و أمريكية تقول لها أنه سيأتي في أكثر وقت لا تتوقعه، وصينية تقول أن الحب تجارة يجب أن نتعلمها. 

محاولة قتل


لا أعرف كيف يكون شيء قريب في الزمان و بعيد في الوجدان. لم تمر ثلاث أشهر على كثير من الأحداث المهمة، وأشعر أنها بعيدة جدا، بل أنني أنساها تماما وتمر الأيام دون أن أفكر فيها، وأحداث أخرى حدثت منذ عقدين تعيش في ذاكرتي كل يومين هذه الفترة. 

لا أفهم عقلي ولا أفهم لماذا يريدني أن أتذكر هذا الحدث، كل ماكبرت شعرت بإنعدام إرداتي بشكل أو بآخر، عقلي وعاطفتي يتصرفون دون أخذ رأيي، قد يقول شخص ما؛ هذه هي الإرادة تصرفات تنبع من العقل والعاطفة. ولكن هذه التصرفات دائما ما تكون خارجة عني، عن فاطمة، لا تشبهني، ولا تشبه أي شخصية قد كنتها يوما ما. 

المهم الحدث الذي حصل من عقدين وأتذكره بشكل متكرر هذه الأيام، هو تعرضي أنا وأحد أخوتي لمحاولة قتل، لم أعبر عنها قبل هذه الأيام بهذا الاسم. 

كل ما أتذكره هو أنهم قالوا لنا أنهم سيلقوننا في الوادي وأن البعبع سيقوم بأكلنا لكن أخي العقلاني، كان ينكر وجود البعبع ويقول لهم أنه كائن أسطوري، وكانوا يقولون له سنرميك في الوادي لتعرف إن كان حقيقي أم لا، في وسط هذا الجدال جاءت أمي من بعيد وأنقذتنا من الموت دون أن تعرف. 

صورة أمي وهي تنادينا من بعيد تتكرر في أحلامي، أكون في صراع مع قوى غريبة، وأرى أمي وهي تناديني أركض نحوها، لينتهي الكابوس. 

هل سبب تذكري لهذه الحدث هو أنه أول مره شعرت فيها بالخوف وبالنهاية وبالقرب من المجهول، كان عمري في هذا اليوم لا يزيد عن خمس أعوام، وكنت أرى نفسي في الوادي أسبح مع البعبع، يحاول أكلي، وأحاول الهروب منه، كانوا يتحدثون، وكنت أعيش ما يتحدثون عنه، وأنا واقفه بينهم، الغريب أنني لا أعرف كيف وصلنا إلى الوادي، ولا مالذي حدث بعدما وصلنا إلى المنزل، كل ما أتذكره أنني كنت أريد أن أنقذ أخي، لا أريد أن أتركه وحيدا بين هؤلاء الوحوش. 

لا أفكر في هؤلاء المجرمين لا لأنني عفوت عنهم، فأنا مازلت لا أثق بهم وأشعر بالخوف على كل من يرافقهم من أقاربي وأحيانا بالغضب، في نظري هم مجرمين ويجب أن يكونوا في السجن الآن، ولن تنتهي القضايا التي سيحاسبهم القانون عليها، سيكون سجنهم كجلود أهل النار، كلما أنتهى جدد لذنب آخر ولقضية أخرى. لا أتذكرهم بل أنني نسيتهم لسنوات، وعندما رأيتهم صدمت أنهم مازالوا أحياء. 

لكن لأنني أشعر أنهم أقل من أن أفكر فيهم، أشعر بالخجل من جروح تسبب بها صعاليك وحثالة.  

ربما يكون احتقاري لهم آلية دفاع  تمحوهم من ذاكرتي وترفض الإعتراف بأي أذى تسببوا به

مع أنني في الحقيقة أتمنى أن يعتذروا لي ولأخي وأرى الشعور بالذنب على وجوههم ولو لمرة واحدة في حياتهم. 

جروحي من أقاربي وأهلي تعيش في ذاكرتي دائما، لها موعد سنوي تزورني فيه، أعيش خلاله في منفى، لا يعيشه فيه غيري، وأغذي وحدتي، وفرديتي خلاله. 

 طورت آلية دفاع تمنعني من الحب، لأنني عرفت أن أسوأ الأحزان تأتي لأننا نحب من تسبب بها أو من حصلت له.

لم أعد أشعر بالحب بشكله الأول والأصلي، أنا أرى أثاره فقط، في خوفي من الفقد، وحزني على النهايات. 

أحاول أن أعرف، هل ما أمر به طبيعي، هل أخرجت كل حزني على تلك الخسارة، أم أنها ستباغتني فجأة بعد أن أكون قد نسيتها، أم أنه العمر، يجعلنا نفكر بعقلانية ونخسر العاطفية، لأنها كانت فرصة في ذلك الوقت، شعرت أني خسرت، وخلال شهر واحد تغيرت رغباتي وقناعاتي، لم أعد أشعر بالخسارة بل بالنجاة. 

طريقة مثالية للعيش

كنت أظن أنني بمرور الأيام ستستقر روحي في هذا العالم، وستتقبله، لن أستيقظ في منتصف نومي وأتسائل عن معنى الحياة، لن أصاب بنوبة هلع لأنني لا أستطيع أن أتحكم بقلبي، أو لأنني لا أعرف متى سأموت، وأن كل الموتى كانت لديهم خطط للغد وللعام القادم وربما لعقدين أو ثلاثة. 

لكن العالم يزداد غرابة وتعقيدا وتفاهة كل يوم بالنسبة لي. 

والنفس البشرية هي أكثر ما يجعلني أرغب بالإنعزال والهرب. 

كنت طوال عمري أظن أن الأذى يأتي من الخارج، لكن اليوم أوقن أن الإنسان هو الوحيد الذي يؤذي و يظلم نفسه، حتى وإن جاء من الخارج في حالات نادرة، لا يسبقه شيء في نفس الإنسان يتسبب به بطريقة أو بأخرى. 

أحيانا أشعر أنني أمتلك زمام الأمور وأن فرحي وحزني بيدي، لكن كلما أوقفت حزن، جاء اخر أشد و أعظم. 

أتذكر كلمات صديقتي عفاف؛ بأن الحياة لعبة، وأننا كلما أنهينا مستوى، ننتقل إلى مستوى أشد صعوبة، تؤكد لي أننا في المستوى الأخير سنصل إلى الكأس وسنفوز. 

ولكن ما فائدت الكأس، بعد كل هذا الدمار الذي أصاب أرواحنا وأنفسنا. 

وربما نستلم الكأس ونموت بعدها أو يكون هناك كأس اخر نحتاج إليه حتى يكتمل الفوز، ونستمر في محاولة جمع الكؤوس، إلى أن ننسى سبب فوزنا بها، وتصبح هي الجائزة الوحيدة.  

كانت لدي دكتورة في الجامعة، أتذكرها دائما، أكثر من تذكري لأغلب من أعرفهم، سمعت قصتها وأنا في المتوسطة، وتأثرت بها، لما يخطر على بالي أبدا أنني سأراها، بعد أن أصبحت طالبة في قسمها بسنة، عرفت أنها هي التي سمعت قصتها قبل سنوات، لم تكن تشبه أبدا الصورة التي تخيلتها لها لا من قريب ولا من بعيد، كانت هي روح الجامعة، لا يمكن أن تنظري إليها ولا ترين ابتسامة او تسمعين كلمة تطيب الخطر، للأسف لم تظهر هذه الشخصية في تصحيح الواجبات والاختبارات، على كل، كنت أشعر طوال الوقت أنها مازالت في مرحلة الإنكار، بعد فترة حدثتنا عن رائد التنمية البشرية عند العرب ولا أريد أن أتحدث عنه فقد أفضى إلى ما قدم، لكنه كان يقول أن الذين ماتوا بسبب اختناقهم بالغاز كانوا هم المتسببين بموتهم، منتحرين يعني، ومات هو بسببه. 

عندما تحدثت عنه فهمت كل شيء. 

و أتذكر رؤيتي لها مع رئيسة القسم، وهي تحدثها عن فعالية قامت بها وتقول سنعيدها في العام القادم، مع أنها تعلم أنهم لن يجددوا عقدها لعام آخر، هي وأغلب الدكاترة، والكل يعلم، قلت لنفسي ربما، لأنهم يعرفون أنها هي روح الجامعة، لن يتخلوا عنها، ولكنهم تخلوا. 

كانت هذه القصة وقصص أخرى كثيرة مررت بها أو رأيتها، تجعلني أختار اليأس، وأعتبر الأمل مخدر قاتل، بل أحتقره هو، وكل من يروج له ويحبه. 

لأنني أرى أن الخسارة المتوقعة والمنتظرة، أقل مرارة و إهانة من خسارة لم تجد مكانها قد جهز لها. 

كل الخسارات التي مررت بها وجدت لها كراسي وسرائر، ومساحات شاسعة للرقص والغناء. 

أعتراف لم تعد لدي أماكن أجهزها لأي خسارة قادمة، ولذلك توقفت عن العيش. 

لأن الطريقة الوحيدة للعيش هي انتظار الفوز والخسارة، وإذا لم تنتظر أي منهما، ستموت. 

لم تعد طريقتي في اختيار اليأس صالحة للاستخدام. 

لأنني استهلكت مساحات لم يكن لي حاجة بها، إسراف وهدر لا داعي لهما، أوصلوني للإفلاس. 

أقف اليوم أمام روحي، وأحاول أن أقنعها أن تنسى الديون، أن تسامحني، وأنني سأبدأ من جديد، لن أفكر في الأمل ولن أجعله عدو، ولن أجعل اليأس عبد لي، سأقسم الموارد بشكل عادل، لكنها يجب أن تسمح لي بذلك، بنسيانها لديوني السابقة.أعلنت إفلاسي، وأنتظرت الجواب.

وأظن أنني بهذا الإعلان، سأبدأ من جديد، سأنظر إلى الحياة بعملية، لن أخاف منها، قد فرضت علي، ويجب أن أخرج منها بأقصى فائدة، وإلى المستويات، باحترافية، و بأن لا أستخدم كرت الضحية، كلما ضاقت علي الأرض وأنطبقت على السماء، وربما سأقتنع،بحقيقة أن لكل شخص في هذا العالم، قصة خاصة به. 

طريقة مثالية للعيش؟ أيش رأيكم؟.  

….

لا يوجد أي عنوان يناسب هذه التدوينة ربما تكون “نفثة مصدور” أو تأملات أو محاولة لفهم الحياة. 

أكتبها لأفهم أنا أولا قبل أن يكون لدي أي هدف آخر. 

كنت أقرأ في مذكراتي التي كتبتها قبل ٧ و ٨ أعوام و وجدت الكثير من الأحلام والأمال والمخاوف، حدث بعضها، ولم يحدث الآخر، ولم تكن بذلك التأثير الكبير. 

الغريب أن نفسي في الماضي تتحدث معي وكأنها تعرف الطريقة التي أقرأها بها، ولا يغير هذا أي شيء. 

و البارحة سهرت على مدونة الكاتبة التي تعرفت على عالم التدوين بسببها في بداية مراهقتي، وحلمت أن أكون هي، توفيت قبل أن أعرفها بسنتين أو ثلاث، ولأنني عرفتها في رمضان، قضيت رمضان ذلك كله بالدعاء لها بالرحمة والبكاء على شبابها. 

وسبق هذه القراءة وفاة قريبتين لي رحمة الله عليهما، وزاد هذا من صعوبة هذه القراءة ومن فهمي لها. شعرت أنني في القراءتين؛ عرفت أشياء لم أكن أعرفها عن الحياة. 

 والمؤسف أنني لا أعرف كيف أصف ما عرفته، ولا أن أشرح غير أنني فهمت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم “ما لي وللدنيا؟، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها”

نعيش نحن هذا العبور السخيف وكأنه أبدي، نبني قصور من الخيال وبيوت من الأوهام، ونستوطن هذه الأرض الضيقة، ونحرث فيها بذور ليست لها ولن تكون لها. 

يخيفني هذا النسيان، يخفيني هذا الاستيطان، يخيفني طول الأمل

وهذا الانتظار الطويل. 

ولا أفهم أبدا كيف أننا لا نمل هذا التكرار للأحداث في حياتنا الخاصة والعامة وأن التاريخ يعيد نفسه مئات المرات، دون أن يكون لهذا التكرار والإعادة أي فائدة. 

عاشت هذه الكاتبة رحمها الله في بداية الألفين نفس الأحداث الكونية التي أعيشها أنا بعد ٢٠ عام تقريبا، وعشت أنا القصة نفسها عشرات المرات، وفي كل مرة تصرفت وكأنني لم أعشها من قبل، مع أنني لو فتحت الصفحات الأولى في مذكراتي كنت سأراها مكتوبة، ولذلك لا يمكنني أن ألوم العالم على إعادة قبحه كل عقد ولا لوم البشر على غبائهم. 

لا أشعر أن غشاوة أزيلت بل جبال من الغشاوات أسقطت وأنا أراها، وأشعر أن جبال أخرى مازالت قائمة تسقط ببطء شديد، وكلي خوف من رؤية ما تحجبه عني. 

بداية جديدة ٢

في ٢٠٢٢ كتبت تدوينة بداية جديدة وإلى الآن أقرأها كل سنة بعد أيام ميلادي وأشعر بالإمتنان والحب لنفسي القديمة التي كتبت تلك التدوينة ووثقت تطوري ورحلتي في الحياة، كانت تلخيص لكل ماعشته قبل تلك السنة. 

مالذي حدث خلال هذه السنوات الثلاث؟

أحيانا أشعر أنني قمت بجذب نية قلب الحياة بتلك التدوينة. 

اختلفت تماما بعدها، توقفت عن الحب، وعن التفكير والتحليل، وعن البحث عن نفسي، شعرت بالملل من التكرار من الوصول والعودة والوصول. 

لم تكن لدي أي فكرة عن ماهيتي ولا عن الحياة، كنت في وضع النجاة، كل ما أريده مضي العمر والأيام. 

عرفت أنني كنت أسير بعصا الكتابة واتكأ عليها، وعندما منعت منها، منعت من الحركة.

كنت كالأعمى، أتخبط يمين وشمال، في غرفة ضيقة ولا أبواب فيها. 

كنت أظن أنني متشائمة لكن أتضح أنني كنت مليئة بالآمال والأحلام؛ في كل مرة أقرأ فيها كتاباتي القديمة ومحادثاتي مع صديقاتي أشعر أنني أنا من أوصلت نفسي لهذه الحال، بكلماتي السيئة وظنوني الأسوأ. 

قبل أيام في جلسة صفاء مع الذات قلت هذه ثلاث مرت، تكفيرا عن ذنوبي، لم أشعر بالغضب كعادتي، لم أتسائل، كيف؟ ثلاث سنين مضت دون أن أكتسب فيها شيء لنفسي؟  

تعلمت الرضا، وأنني أمة لله أسير في ملكوته، وتحت حكمه، يتصرف بي، ولا أتصرف في نفسي. 

لم أحب نفسي القديمة ولم أقدرها خجلت منها شعرت بالعار والخزي منها، كانت تتلكم اكثر من اللازم، تحب أكثر من اللازم، تشارك أكثر من اللازم، كانت أكبر مني وأجمل، ولذلك خسرتها. 

وضع البقاء survival mode 

لم أكن أعرف أنني أعيش فيه، كنت أظن أن هذا  مايعنيه التقدم في العمر، تقل لهفتك للأشياء، تبتعد عن الناس، وعن نفسك، وتشعر بالملل. 

تفقد قدرتك على البكاء لأن مخزون دموعك نفذ، والضحك لأنك رأيت كل شيء.  

لكن الغضب؟ مكون لا يمكن العيش بدونه مع الأكسجين والماء. 

لم أعرف أنني في وضع غير طبيعي إلا بعد أن حصلت مشكلة مع شخص ما، وبكيت، وفي وسط بكائي ضحكت، لأنني من سنين لم أبكي من أجل أحد. 

وازداد وضوحها عندما فرحت لأنني افتقدت صديقه كنت أظن أنني خسرتها إلى الأبد. 

وعندما عفوت وسامحت وقررت أن أتخلى عن غضبي على كثير من الناس، خرجت من الماء. 

الجاي

لا أريد أن أعتمد على نفسي، وأن أظن أنها ستقوم بحل  كل شيء لوحدها، أريد أن أعرف أن الأمر بيد الله، وهذا أفضل لأنه يستطيع أن يوصلني لما أريده في وقت أقل من الذي وضعته لنفسي بسنوات. 

أن أؤمن بسعة الحياة وكثرت الخيارات، وأن الحياة لا تتوقف على شيء، وأنني لم أعرف إلا القليل من نفسي ومن الحياة، وهذا يجعل خياراتي اكثر من أن تعد أو تحصى. 

أن أشعر بأقدامي على الأرض، وروحي بين جنبي، أن أشرب كوب الماء، وأنا لا أفكر بشيء غيره. 

أن أنتصر على الهوى والنفس بعد حرب دامت لعقد من الزمان. 

و أن تكون هذه نهاية السنين العجاف. 

كل الأشياء

لا أعرف حياتي قبل هذا الجرح ولا أعرف آمالي ولا أحلامي قبله، لكن أتذكر أنني كنت أطلبه من الله في كل وقت

وكانت صديقتي تنهاني عنه وتحاول أن تريني حقيقته

ولم أستمع إليها بل استمريت بالدعاء إلى أن استجيب

وتغير الدعاء إلى: اللهم أصرف عني هذا ولا تبتليني بمثله.

والآن كل الجراح تعيدني له، وكل ألم وكل إبتلاء وكل حزن يعيدني له وكأنه هو البداية والنهاية وكل الأشياء ، تهون كل الجراح بعده وتقصر أن تبلغ شأوه وبُعده، تعود من حيث أتت لأنه لم يدع لها موضع قدم ولا إصبع.

في بدايته كنت أتسائل عن جدواه وسببه، ولكن اليوم لا أتسائل، هل يتسائل الإنسان عن نسبه وعن وطنه بل هل يتسائل عن سبب وجود قدمه؟، وهذا الجرح مثلها، جزء من هويتي ومن نفسي، ولا أعرف نفسي دونه.

أحاول أن أتخيل اليوم الذي أستيقظ فيه دون أن أتذكره، وكل ما أتخيله هو الموت والفراغ، أشعر أن فراقه لن يحين إلا في اللحظة التي تخرج فيها روحي، وفي بعض الأحيان أفكر أنه سيرافقني في البرزخ.

لم أعد أفكر في شفائه ولا أبذل الأسباب لعلاجه، ولا أشعر بوجوده، لكن أعرف أنه موجود، أراه في القصائد، والأفلام التي تنتهي بنهاية سعيدة، في وجوه الأصدقاء، و وجوه الأقارب، أراه في غريب يحاول أن يعرفني، في الأغاني والتي صارت كلها تشبهني.

لا أظن أن هذا الجرح سيفارقني.

عن الكتابة وأشياء أُخرى

أريد أن أكتب. ربما يكون هذا الشيء واضح لكل من يعرفني فأنا أدون منذ ٢٠١٨ وبدأت بالكاتبة وأنا في السابعة أو أقل، أذكر أنني وجدت أكياس من الورق في الحي وذكرتني بالأوراق التي أراها في المسلسلات التاريخية، بدأت بكتابة قصص عن معارفي و أقاربي عليها. وكنت أعلق على الصور التي يمكن اضافتها للرسائل النصية في جوال الكشاف وأرسلها لأمي التي كانت تعيش في مدينة أخرى، مرة من المرات وجدتها وضعتها مع الرسائل المفضلة، لم أرى أنها فعلت ذلك لأنها تحبني لكن لأنها تظن أني كاتبة عظيمة.

ومع هذا كله لم أعرف أنني أريد أن أكتب وأن أكون كاتبة إلا بعد كتابتي لبحث التخرج.

أريد أن أكتب حتى لو لم أكن موهوبة، ولو كان حسي الأدبي ميّت، ولو كانت لغتي ركيكة وأعجمية كأنها رواية مترجمة.

لأني أشعر أنني كائن حي ومفيد بالكتابة، والكتابة بالنسبة لي واجب فأنا أكتب عن نفسي وعن النساء الآتي لم تتح لهن الفرصة بأن يكتبن لأنهن حُملن مسؤوليات أهم منها في عمري وحتى في عمر أصغر مني، أشعر هذه الأيام أنني لا أحقق أحلامي وحدي بل أحلام والدتي وخالتي وعمتي وجدتي رحمها الله، وكل الجدات الآتي لم يكن لهن نصيب لا في شجرة العائلة ولا في أمجاد القبيلة، قد يجعلني هذا الكلام أصنف نسوية، ولكن أنا في النهاية امرأة وهويتي وثقافتي تتشكل بكوني امرأة -مع أشياء أخرى بالطبع-ولن أخفي هذا الجانب من نفسي حتى لا يُظن أنني نسوية.

وعودتي لتخصص اللغة العربية كانت لشعوري بمسؤولية كوني امرأة، كانت خالتي طوال الإجازة الصيفية تقول لي بصوت حزين ظننت أنك ستكونين أول دكتورة في العائلة، ربما يظن شخص ما أنا سعادته في اختياراته المهنية أهم من العائلة، ولن يكون مخطئا، لكن هناك تدرج في الأجيال لا بد أن يحدث حتى تصل لمرحلة اختيار سعادتك على العائلة، أظن أن نساء العائلة في الجيل القادم سيكون بإمكانهن أن لا يكملن دراستهن وأن يبحثن عن شغفهن، جيلي أنا يجب أن يسمح لهن بهذه الرفاهية.

استيقظت يوم من الأيام وقد آمنت بحقيقة أن الحياة لن تصبح ألطف و أجمل مع الأيام وبأنني لن أجد الراحة ما دمت على هذه الأرض، والغريب أن إيماني هذا سهل علي الحياة، لم أعد أحاول أن أشرح نفسي قد تقول ها هو الرابط العجيب يمشي على قدمين لكن هناك رابط، نحن نشرح ونحلل لأننا نريد أن تكون حياتنا أسهل لأننا نظن أننا قمنا بالواجب وأقمنا على الشخص الآخر الحجة وهو قرر أنه لا يريد أن يفهم لأنه أحمق، لكن إذا شعرت أن الدافع الذي يجعلني أشرح هو حبي لمن أحدثه و رغبتي بوضعه في رحابة اليقين وإبعاده عن ضيق الشك ووسوسة الشيطان فسأشرح، المهم أن لا يكون السبب أنني أظن أن حياتي ستكون أسهل لأنني تحدثت أو”فضفضت”

أفكر هذه الأيام في صورتي التي أحاول أن أجعل العالم يراها، أخاف من أن تكون منافقة أو غير حقيقية، وأنني أريد أن أبدو لطيفة أكثر من الواقع، ومتدينة اكثر من تديني الحقيقي، وحتى في الحب أخاف أن لا يكون حبي حقيقي بل مشروط، أُحب إذا شعرت بالحب، و أكره إذا لم أجد الحب الذي أرى أنني استحقه.

ولكن دائما ما أُختبر في الأشياء التي أحبها أو التي أؤمن بها، لا بد أن يحدث شيء ما وأجد ضميري يصرخ بي: أهربي الآن يا منافقة. أتمسك بحبي و إيماني في أوقات، وفي أوقات آخرى أكتشف مشاعري الحقيقية وأتخلى عنه، وأشعر بالامتنان لله لعدم تركه لي في جهلي ولتعليمه لي كل يوم، أحب الله.

الوصول إلى الوجهة

منذ اكثر من شهر و أنا لا أجد لنفسي وقت لأتساءل أو أفكر أو حتى لأناقش صديقة، مع ذلك وجدت نفسي قد تغيرت علي و كأنها استمرت في البحث والتعلم والتساؤل في غفلتي هذه.

وجدت نفسي تجمع تناقضاتي كلها وتتقبلها دون عناء فأنا مكتئبة و لا أريد أن أرى شمس الغد، و أنا متفائلة أحب الحياة و الناس و أريد أن أعيش لمئة عام.

لم أعد أبحث عن شخص يفهمني و يُفهمني نفسي، و لا أسعى لمعرفة الناس و أسبابهم و لماذا فعلوا ما فعلوه، لأنني لن أصل إلى شيء، سيبقى شيء ما لا أستطيع معرفته ولا فهمه ولا يستطيعون هم أيضا.

و الأغرب من ذلك كله أنني أسير في طريق مختلفة تماما، أشيح بنظري عن الطريق التي أحببتها لأعوام بحزن و لامبالة، و لا أدري أي الطريقين يشبهني، أيهما أنا، و أقرر أن اترك الاقدار تسير بي كيفما شاءت.

تذكرت بطل فلم شاهدته قبل أيام محامي مناضل وثوري، لا يعرف التملق والمداهنة يخرج ما في قلبه و لا يهتم بنتائج ما يقول، وجد نفسه يوم من الأيام يرى أن من يدافع عنهم لا يقدرون نضاله و ضياع شبابه و حياته لأجلهم، قرر أن يكون محامي مثل أي محامي آخر يعمل للمال والمال فقط.

و أظن أننا جميعا نجد أنفسنا في نفس الموقف مع أختلاف الظروف، نجهد انفسنا من أجل شيء ما وعندما لا نرى النتائج نسير في عكس ذلك الاتجاه تماما انتقاما لنفسنا القديمة و انتقاما لجهدنا الضائع.

هذا ما حدث معي بعد سنين من حب الكتابة و الأدب وجدت نفسي لا أحصد شيء من ذلك الحب ولا ذلك الجهد، كل من بدأ معي وصل لوجهته، وبقيت أنا ثابتة في مكان واحد لا أصل لشيء.

أو حتى لا أبالغ كعادتي، فأنا اتحرك و اغير طرقي و اصل لأماكن جديدة في كل مرة، و لكن لا أجد نفسي فيها ولخوفي من الغربة وبحثي عن الانتماء والحب في كل مكان، أرحل عن كل ما لا يشبهني.و لحسن حظي المتعة في الطريق وفي الرفاق الذين نجدهم في جوانبه يبحثون ويحلمون، ليست في الوصول إلى الوجهة، و أنا أعيش متعة المسير في الطريق مرات عدة.

بداية جديدة

بدأت في كتابة هذه التدوينة منذ ٢٣مايو وهو يوم ميلادي، وكما هو واضح من العنوان كنت أريد بداية جديدة لعمر جديد، لا أحمل فيه المخاوف والأسئلة التي حملتها معي لسنوات، دون أن أبحث عن أجوبة حقيقية، كنت أحملها فقط و كأنني بحملي لها واعترافي بوجودها أكون قد فعلت كل ما علي فعله والأمر للسنين والتجارب لتجد نهاية لها، وكنت أرى أن النهاية تكون بمخاوف و أسئلة أخرى، لكن وجدت أنني أزيد الحمل على نفسي دون أن تسقط السنين بمرورها بعضه.

بداية جديدة(1)

حسب تصنيف وزارة الصحة فأنا في السنة الاخيرة من مراهقتي، وبما أنها السنة الاخيرة فأنا أريد استغلالها في محاولة الوصول إلى نقطة البداية الاخيرة، لأدخل مرحلة الشباب وأنا في طريقي الصحيح ولا أضيعه هو أيضا في الشتات.

أتسائل هل هناك شخص بدأ عمر جديد وهو راضي عن نفسه؟ لأنك تفقد احساسك بالزمن حتى تبدأ عام جديد من حياتك و تقول: كنت أظن أنني سأكون في مكان مختلف الآن. ولكن أنت ما زلت عالق في المكان ذاته، مع أعتياد أقوى من ذلك الذي كنت تشعر به في ١٩ أو ٢٠، تفقد الغضب الذي كان يجبرك على التغيير والحزن الذي كان يمنعك من النوم، وتتقبل أنك لن تكون في المكان الذي تريده و أنك ليس لديك رغبة حقيقية بالتغيير.

مشكلتي كانت دائما مع الزمن ومع مروره السريع ومن هروبه مني وركضي خلفه، ومحاولتي الامساك به ومنعه من الحركة، والآن تقبلت أن الزمن سيمر علي كما يمر على غيري، و أن الشيب سيغطي شعري، و التجاعيد ستملأ وجهي، و أقصى ما أستطيع فعله هو أن أسير بجانب الزمن و أن أمسك بيده ليأخذني معه في مسيره، ولا أبقى وراءه مع الماضي والذكريات. بالنسبة لي هذه قفزة روحية أو معرفية أو أي يكن ولكنها تطور كبير، لم أكن احلم به قبل عام من الآن.

كنت أؤجل هذه البداية و أضع اللوم على كل شيء ما عدا نفسي، سأنتظر أن ينتهي ذلك الشيء، أو أن يساعدني ذلك الشخص، أو حتى ينتهي ذلك الظرف، إلا أن الحياة لن تسهل لي السبل والطرق حتى أفعل ما أريده، وحدي من سأفعل ذلك.

أغلب الأشياء التي أريد أن أصل إليها إن لم تكن كلها هي أشياء معنوية وليس لها وجود مادي، منها الرضا والصبر و أهمها أنني أريد أن أنتمي لهذه الأرض، ولهذا العالم، لأنني في أوقات كثيرة أشعر أني تسللت إليه وفي أي لحظة سيكتشف شخصا ما ذلك و أضطر للهروب، أو أسوء من ذلك أن أشرح و أفسر ذاتي و أجيب على سؤال: من أنا.

بداية جديدة(2)

من الصفات التي أخاف أن أوصف بها، هي نكران الجميل، أخاف دائما أن لا أقدر الحب الذي قدم لي في وقت ما، حتى و إن لم أرغب به، و إن كنت رأيته يزيد عن تحملي.

لكن اليوم تذكرت أحد المقربين مني، لا أستطيع التواصل معه منذ عام وأكثر، يمكننا أن تحدث ولكن لا صوتي يصل إليه ولا صوته يصل إلى. وهو أحد أسباب رغبتي في التغيير لأنه أطلعني على ضعفي الذي كنت لا أعترف به أو أتجاهله حتى لا أضطر للتعامل معه.

مع ذلك وجدت نفسي أتذكره كشخص لطيف، عندما رأيت شخص يتحدث عن طريقة الرجال في الاعتذار، وتذكرت أنه كان وما زال يعتذر دائما ويكرر اعتذاره دون ملل، ويعتذر بكل الطرق بأفعاله و أقواله.

أحب أي شيء يذكرني بأنني شخص جيد، لأنني دائما ما أنسى ذلك و لا أرى من نفسي سوى عيوبي.

بداية جديدة(3)

كنت أستمع لبودكاست في الأمس وإحدى مقدماته عاشت قصة تشبه قصتي إلى حد ما، درست في تخصص اللغة العربية لعامين ونصف ومن ثم حولت لعلم النفس وهو التخصص الذي أرغب بدراسته الآن ونفس المدة التي قضيتها في اللغة العربية ، ولكن السبب الذي دعاني للكتابة هو حديثها بشعورها باقتراب موتها، وهو ماحصل لي قبل ٦ أعوام.

كنا في طريقنا إلى المدينة بعد عمرة رمضان عندما قمنا بحفلة مبيت ونمنا جميعا، كانت أفضل نومة نمتها في حياتي حتى الآن، لكن استيقظت على صوت أختي تصرخ باسم اخي الذي يقود السيارة وامي وابي يكررون لا إله إلا الله. في البداية حاولت أن أمنع الحادث بأقدامي ولكن عرفت أن ذلك مستحيل واستسلمت للموت، كنت أفكر في تلك الثواني بأنني لست مستعدة ولم أفكر بموتي أبدًا قبل تلك اللحظة، مع ذلك لا يمكنني منع الموت من القدوم، دارت السيارة عدت مرات ثم توقفت، كنت الوحيدة في الكرسي الخلفي، لا أذكر وضعيتي، لكن أذكر أن والدي وأخي كانوا بسبب مخالفة سابقة حصلنا عليها في تلك السفرة يضعون حزام الأمان ولذلك كان رأسهم إلى الأسفل و أقدمهم إلى الأعلى، خرجنا من النافذة ورأيت أمي واقفة عند رأس أختي و شعرت براحة شديدة، لكن أخي الآخر كان فاقد للوعي ويتنفس بشكل غريب، لذلك بدأت أدور حول السيارة، أذهب لأمي وأختي، ومن ثم لأخي، و أعود أبحث عن حجاب أختي، ونقابتنا، أعود للسيارة أخرج الحقائب والمناديل و أرتب الأشياء، كأننا سنكمل الطريق مرة أخرى ، كنت الشخص الوحيد الذي يمكنه أن يبقى قوي، والدّي يأكلهم القلق بسبب إصابة أخي وأختي، و أختي مصابة وحتى الآن لا تتذكر الكثير من أحداث ذلك اليوم بسبب الصدمة التي حصلت لها، أما أخي الذي كان يقود فكان الشعور بالذنب يقتله.

بعد الحادث بفترة بسيطة شعرت بأنني سأموت قريبا، كنت متأكدة بأنني سأموت و أن كل من حولي يعرفون ذلك، ولأن جدتي رحمها الله توفيت في يوم الجمعة كنت أنا أيضا سأموت فيه، جاء يوم الجمعة وكنت أعيش في عالم آخر أشعر بأن قلبي سيتوقف في أي لحظة و أنني سأذهب لعالم الموتى، كل ما كنت أفكر فيه هو كيف سيتم إستقبالي في العالم الآخر، من قبل جدتي و خالي الذي توفي قبل ولادتي وصديق طفولتي رحمهم الله، كنت أشعر أنهم ينتظرونني ولأنني قرأت بداية كتاب الروح كنت أظنهم ينتظرون مني أخبار هذا العالم.

عندما استيقظت ولا أعرف كيف نمت، قررت أني لن أنتظر الموت بكل ذلك الهلع و سأستمر بالعيش بشكل طبيعي حتى يصل إلي. ومنذ ٦أعوام مازلت أنتظر الموت بنفس ذلك الخوف، كل عام جديد أعيشه يكون بمثابة الشيء المستحيل الذي حصل رغم كل الظروف، ولذلك استقبل يوم ميلادي بسعادة جديدة، فأنا لم أحلم بأن أعيش حتى هذا اليوم.

تلك الثواني التي استسلمت فيها للموت و ودعت الحياة، تعود لي في أحلامي دائما، يقول لي شخص ما بأنني سأموت، و أقول له بأنني لست مستعدة و أنني كنت لدي آمال وأحلام وكنت أنتظر حدوثها، و من ثم أخضع للأمر والواقع فلا أحد بإمكانه أن يهرب من الموت.

ولأنني في بداية جديدة أريد أن أتقبل هذه النهاية و أن أستعد لها و أن أعمل لدنياي و كأني سأعيش أبدا. نعم في أوقات كثيرة أنا أنتظرها بشغف شديد و لكن في أغلب الأوقات أخاف منها.

بداية جديدة(٤)

يمر أحد المقربين مني بفترة صعبة، وكعادتي في حمل هموم من أعرف ومن لا أعرف عشت معه تلك الفترة، حلمت أنني أحمله على ظهري و طلب مني أن أتوقف في مكان ما إذا أستطعت، قلت: سأحملك حتى تعود كما كنت. و أحب أن عقلي اللاواعي لطيف إلى هذه الدرجة، لكن منذ عودتي لعقلي الواعي-يع- و أنا أفكر لماذا لا يوجد في هذا العالم من يقول لك سأحملك حتى تعود كما كنت، لا أتحدث عن نفسي فلا أحد يريد عودة نسختي السابقة، بل عن الجميع، لا يمكن لشخص أن يتحمل غيره لفترة طويلة، دائما سنشعر بالملل بعد أيام معدودة، ونطلب منهم أن يتكيفوا مع وضعهم الجديد و أن يتقبلوه، أو أن يخرجوا منه، و كأن المشاعر أحذية يمكنك نزعها و ارتدائها في ثواني.

رحلة الإنسان في تقبل تقلبات الزمان وتحولاته طويلة، وكلنا سيمر بهذه الرحلة، وهناك من لا يتقبلها أبدا، يعيش عمره وهو يحاول أن يعيد الزمان للوراء، لأنه لم يجد رفيق يعينه في رحلته، و رغم وقوفه في نقطة البداية لأعوام طويلة، وعندما لم يسمع صافرة البداية، نظر في المدرجات و لم يرى من ينبأه أو يشجعه على الانطلاق.

أريد أن أعيش مع كل إنسان رحلته في التكيف والتعود على تجربة يراها عقبة في خطته التي رسمها لحياته، و أتمنى أن يمدني الله بالصبر الكافي، كي لا أطلب منهم أن يتوقفوا عن الحزن بعد أيام.

بداية جديدة (٥)

يمر الكثير من الأشخاص في حياتنا ومعهم الكثير من الأسئلة، و الحيرة، وبسبب جهلنا نحاول أن نحصل على الأجوبة منهم أو عبرهم، يكونون محور اهتمامنا، وهذه المحورية تدور كما يدور عقرب الساعة تعيد الأسئلة ذاتها في أوقات مختلفة .

حتى نعرف أن كل شخص منهم مجرد عابر، جاء بأسئلة علينا أن نعرف أجوبتها وحدنا، و أن الأجوبة تكمن داخلنا و أن البحث يجب أن يبدأ من ذواتنا وينتهي فيها. لكن إلقاء اللوم على غيرنا أسهل وطريقه مختصرة لا اعوجاج فيها، نجردهم من إنسانيتهم ونجعل منهم شماعة نضع عليها ثياب الحيرة والحزن والغصب، ونكون نحن وحدنا من نعيش هذه المشاعر وهم مجرد جماد “شماعة” لم يعرفوا الحيرة ولا الغضب ولا الحزن.

استيعابنا لدورنا في كل علاقتنا وتأثرنا بها وتأثيرنا فيها و عدم تهميش أهمية دورنا و أفعالنا و ردات فعلنا تساعدنا في فهم العالم و الأهم من ذلك تساعدنا في فهم أنفسنا.

“ارتبط راسك”

من المواقف التي حدثت في طفولتي المبكرة ولا تتوقف عن زيارتي كل ما شعرت بالضياع واليأس في حياتي، هو موقف حدث وأنا في الرابعة أو الخامسة، ذهبت مع جدتي رحمها الله لعقيقة أحد أقاربنا، وخرجت مع الأطفال لنذهب إلى الدكان، وفي بداية الطريق فقدت أثرهم، وتهت.

لا أعرف كم لبثت في ذلك التيه ولكن كان كأنه ساعات، كنت أعود وأذهب في نفس المكان، وبيني وبين البيت الذي أبحث عنه أمتار، كان هناك طفل مر من جانبي يحمل بالون لا أذكر لونه ولكن تقول ذاكرتي الكاذبة أنه أصفر وفي أوقات أخرى تقول أنه أزرق، كان سعيدا بشكل مؤذي، ذهب إلى منزله و أخرج رأسه من النافذة ورفع عقيرته بالغناء، لم يكن ينظر إلى، ولكن بعد دقائق سمعته يناديني و يقول أنهم يبحثون عني، كان يراهم من نافذته وكنت أنا أرى المباني التي حولي وكأنها جبل أحد يتكرر عشرات المرات، كلها متشابهة وكلها أكبر مني.

عدت لجدتي و أنا حزينة وخائفة و أشعر بالخجل من نفسي لأني تهت في مكان لا يتوه فيه أحد، لكنها بكلمات لم أفهم معناها أعادت لي الثقة بنفسي وقالت: ارتبط رأسك.

“ارتباط الرأس” هو تعبير حساني عن عارض يصيب الإنسان يجعله يفقد اتصاله بالمكان والزمان، والاتجاهات.

و أظن أن سبب عودة هذه الذكرى لي كل ما شعرت بالضياع هو أسلوب دفاع يقوم به عقلي ليقول لي أن رأسي أرتبط قليلًا و أن شعوري بالاتجاهات سيعود قريبا وسأعرف اتجاهي و أنه ربما مثل بيت أقاربنا بيني وبينه أمتار، ربما أحتاج إلى شخص يحمل بالون ويطل من النافذة، ويقول لي أن طريقي هناك يبحث عني.